تعد معركة بدر من المعارك الحاسمة في التاريخ، ويعد انتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى هو الانتصار الأعظم في تاريخ الإسلام، حيث انتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، والقلة الضعيفة على الكثرة القوية المستعدة، وأسفرت المعركة عن هزيمة ساحقة لكفار مكة، وانتصار كبير للمسلمين، وكان لهذا النصر صداه الواسع في الجزيرة العربية كلها، ولذا فقد امتن الله على عباده المؤمنين بهذا النصر العظيم والتأييد الرباني الذي أيّد الله به رسوله محمداً صلوات الله عليه وعلى آله ومن معه من المؤمنين المستضعفين فقال عز من قائل : {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران آية 123)، وما ذلك إلا لأن نصر الله للمؤمنين في بدر إنما كان بفضل العناية الإلهية وحدها، فالكثرة ليست هي التي تكفل النصر، والعدة والعتاد المادي ليس هو الذي يقرر مصير المعركة، غير أن ما يجب الأخذ به في الاعتبار هو أن هذا النصر وهذا التأييد لم يأت من فراغ وإنما لأن المؤمنين حققوا في واقع حركتهم في المعركة وخارجها قانون النصر وأخذوا بالأسباب والعوامل التي جعلتهم أهلاً لذلك النصر والتأييد، في الوقت الذي تمثلت في أعدائهم أسباب وعوامل الهزيمة والفشل، والتي أشار القرآن الكريم إلى بعضها في قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال آية 45-47)، إضافة إلى جملة من العوامل والأسباب التي سنتطرق إليها في السطور التالية..
1- مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه:
فالشورى لها أهمية كبرى في الميدان ووقت الحرب، والقائد الحكيم هو الذي يستشير خبراءه ليعرف منهم الخطة السليمة الصحيحة، ويستشير أفراده ليعرف مدى استعدادهم لخوض المعركة، وبالتالي يتحملون جزءاً من المسئولية باعتبارهم شركاء في القرار .
وفي معركة كمعركة بدر كان لا بد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يستشير أصحابه قبل خوض المعركة، وذلك لأن من خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما خرجوا بهدف اعتراض قافلة تجارية لقريش قادمة من بلاد الشام تحمل بضائعهم يقودها أبو سفيان بن حرب، فلم يكونوا مستعدين لحرب، وكل منهم إنما خرج بسلاح المسافر، ولذا حينما استشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه قائلاً: " ما ترون في قتال القوم؟" , قال بعضهم: لا والله مالنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير. وهو ما يعني أنهم كانوا يريدون أن يلقوا القافلة التي خرجوا لها ولم يكونوا يودون أن يخوضوا معركة غير متكافئة وغير مستعدين لها، قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (الأنفال آية7)، هذا ما أرادوه هم لأنفسهم ولكن ما أراده الله لهم كان أمراً آخر، قال تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال آية 7،8).
أمّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان واثقاً في نفسه أن الله لن يضيعه، وأن الله ناصره لا محالة، ولكنه أراد أن يعرف رأي من معه من المهاجرين الذين كانوا قلة مستضعفين والأنصار الذين لم يكونوا يتوقعون أن يدخلوا في معركة غير متكافئة مع قريش وهي من هي في القوة وفي العدة والعتاد، ولذا فقد كرر عليه الصلاة والسلام على أصحابه قوله: "ما ترون في قتال القوم؟ " .. "أشيروا عليّ أيها الناس" .. فسكتوا، وقام المقداد بن عمرو وهو أحد المهاجرين فقال: "يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون مادامت عين تطرف، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة بالحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه" فضحك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأشرق وجهه عندما سمع مقالة المقداد وقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا له، لكنه أراد أن يسمع رأي الأنصار فكرر عليهم مقالته، فقام سعد بن معاذ سيد الأوس وقال: "لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟ " فقال عليه الصلاة والسلام: "أجل" قال سعد: "قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاطعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وسالم من شئت، وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منَّا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فينا من أمر فامرنا نتّبِع أمرك. فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصُبْرٌ في الحرب، صُدْقٌ عند اللقاء، ولعلّ الله يريك منَّا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله". فسُرَّ رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله بقول سعد، فقال: "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".
وصل المسلمون إلى "بدر" وعسكروا فيها يومين ليستريحوا من وعثاء السفر، وليرى الأعراب وغيرهم مدى شجاعتهم وقوتهم واستعدادهم للقتال، فكان لسبق المسلمين إلى بدر واحتلالهم لمواقع المياه واختيار المكان المناسب في أرض المعركة أثر كبير في تحقيق النصر، في الوقت كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يأمر جنده بأن يظلوا في أماكنهم لا يتحركون أو يتحدثون أو يأتون بما يثير انتباه أعدائهم، وتركوا العدو يتقدم، حتى إذا أصبح في مرمى النبال ألقوها عليهم، فأصابوا منهم العدد الكبير فوق ما أحدثه المفاجأة في نفس العدو، مما سبب لهم الارتباك والاضطراب وكثر فيهم القتل والجراح.
3- الأخذ برأي ذوي الخبرة والرأي:
ما كان لكل تلك العوامل أن تتحقق لولا أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم برأي ذوي الخبرة من أصحابه، فبعد أن وصل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر نزل بأصحابه في أسفل الوادي من جهة المدينة، فجاءه الحباب بن المنذر -وكان مشهوراً بجودة الرأي وإخلاص النصيحة- فقال: "يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ ". فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل. امض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر (نطمس ونردم) ما وراءه من القُلُب (الآبار)، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أشرت بالرأي"، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالانتقال إلى حيث أشار عليه الحباب وأخذ ينفذ النصيحة خطوة فخطوة في ظلام الليل الدامس، فلم يجئ نصف الليل إلا وقد تحولوا من مكانهم وامتلكوا مواقع الماء.
المشورة الأخرى التي عمل بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مشورة سعد بن معاذ، وذلك إنه لما اقتربت ساعة المعركة قال سعد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا نبي الله ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عند ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك".
وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على سعد ودعا له بخير، ، وبني العريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكون في مأمن من العدو، لأن في حياته حياة الأمة وكيانها وكرامتها.
وفي عمل النبي صلوات الله عليه وعلى آله بنصائح ذوي الخبرة والرأي من أصحابه دليل على أن رسول الإسلام محمد صلوات الله عليه وعلى آله لم يكن معجباً برأيه ولا راكبًا متن العجب والغرور، بل كان يتشاور مع أصحابه كي يتلمس وجه الخير والرشاد، وكان يحترم الرأي الصائب وينفذه حتى لو تعارض مع رأيه، عملًا بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} [آل عمران: 159]. وهو ما يجب أن يكون فيه للقادة والزعماء عبرة وتبصرة حتى لا يعميهم التعصب الممقوت والاستبداد بالرأي فينزلقون إلى مهاوي الشر والضلال، ويجرون وراءهم الشعوب الإسلامية المغلوبة على أمرها نحو مهاوي التيه والخسائر والهزائم والضعف والوهن.
4-استيفاء المعلومات الصحيحة عن العدو:
يتطلب التكتيك الحربي في أي معركة مع الأعداء الاهتمام بالاستكشاف والاستطلاع قبل وإبان المعركة، ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حرص قبل أن يخوض المعركة مع قريش أن يخرج بنفسه أو كان يختار من يثق بهم للقيام بمهمة الاستكشاف والاستطلاع وجمع المعلومات عن العدو، فأول تلك الأعمال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج هو وأبو بكر في البحث عن المكان الذي نزل فيه جيش قريش، فلقيا شيخاً من العرب، فسألاه عن مكان جيش قريش، وعن مكان محمد وأصحابه، فأخبرهما عن ذلك، ولأن ما جمعاه من المعلومات لم تكن كافية فقد أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الليلة التالية علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص يتحسسون الأحوال ويلتمسون الأخبار، فأصابوا غلامين لقريش كانا يَمدّانِهم بالماء. فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهما عن مكان القوم، فأخبراه بمكانهم، فسألهما عن عددهم، قالا: لا ندري. قال: "كم ينحرون كل يوم"؟. قالا: يومًا تسعًا ويومًا عشرًا. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف". ثم سألهما عمن فيهم من أشراف قريش. فذكرا له أسماءهم. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الناس فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها".
5- ذكر الله تعالى واللجوء إليه:
الإكثار من ذكر الله في ميدان القتال هو عامل مهم وسبب لا غنى عنه لحصول النصر؛ لأنه الاتصال بالقوة الكبرى، والاستعانة بالله سبحانه وتعالى ذي الجبروت، والثقة بالله العزيز الغالب القادر على كل شيء، ولذا أمر الله تعالى عباده المؤمنين في مثل هذا المقام بدوام ذكره والابتهال إليه فقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (الأنفال آية 45).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وفي غيرها كما كان في سائر أحواله النموذج الأعلى في ذكر الله والالتجاء إليه في كل وقت وحين، ففي بدر كان يتفقد الرجال، وينظم الصفوف، ويُسْدِي النصائح، ويذكرهم بالله والدار الآخرة، ثم يعود إلى العريش الذي هيء له، فيستغرق في الدعاء الخاشع، ويستغيث بأمداد الرحمن، وقد مكث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليلة المعركة في صلواته ودعائه حتى كان الصباح، ولما تراءى الجمعان جعل رسول الله يكثر من الابتهال والتضرع بعد أن شاهد قوة المشركين وكثرة عددهم، وينشد الله ما وعده به، ثم رفع يديه قائلاً: "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك، وتكذب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة". وما زال صلى الله عليه وآله وسلم يهتف بربه، مادًّا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه وهو يناجي ربه ويتضرع إليه ويقول في دعائه: " اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض".
كذلك كان أصحاب رسول الله، فقد باتوا ليلتهم يذكرون الله ويدعونه ويتضرعون إليه، وقد تعلق أملهم في معونة الله وبذلوا للنصر كل طاقتهم، وأخذوا في الاستعانة والدعاء حتى أتاهم المدد الإلهي العظيم بنزول الملائكة في صورة متتابعة استجابة لاستغاثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودعوات المؤمنين المجاهدين.
6- تدخل العناية الإلهية:
أرض وادي بدر أرض رملية ناعمة متحركة، وقد شعر المسلمون بالتعب لطول السفر وعدم النوم، وسيطر عليهم قلق الانتظار والترقب، وكان الوادي من الجدب بحيث لم يجدوا فيه قطرة ماء، ونَفِدَ ما كان مع المسلمين من الماء، فلما كان الغد بلغ بهم الظمأ حداً أليماً من العذاب، وفي الليل كان النوم قد جافى عيون المؤمنين من شدة الخوف، وهنا تحوطهم رعاية الله تعالى فينزل عليهم المطر، وتتلبد الأرض، ويسهل عليهم السير، ويغشاهم نعاس ألقاه الله عليهم لتهدأ خواطرهم، ويذهب تعبهم، ولما أصبحوا وجدوا الماء فاغتسلوا وتطهروا، وبذلك دخلوا المعركة وقد تطهروا من الرجس ومن وساوس الشيطان وظنون السوء، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه ثابتي الأقدام، مطمئني القلوب، وعلى العكس كانت هذه العاصفة ضرراً على المشركين فقد أصابهم منها ما أعجزهم عن التحول فقد كانوا في أرض سبخة، وكانت إبلهم تنزلق، وتخر على الأرض، وكانت قوائم الخيل تغوص في الأرض، وتَعْجِزُ عن إخراجها.
ومن آثار العناية الإلهية والتأييد الإلهي تأييد الله تعالى لعباده المؤمنين بالملائكة، ومشاركة الملائكة في المعركة مشاركة فعلية بأمر الله تعالى بإعانة المسلمين في قتل المشركين، وفي تثبيت المؤمنين ونفث روح اليقين في قلوبهم وأرواحهم، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 9 - 12].
7- الثبات وحب التضحية والشهادة:
الثبات هو العامل الأهم الذي دفع بالمسلمين إلى النصر رغم قلة عددهم وكثرة عدوهم، وهو يرجع إلى قوة العقيدة ورسوخ الإيمان، وبالثبات وقوة العقيدة والروح المعنوية العالية واجه المؤمنون العدوان في صلابة واستبسال، وصبر وإيمان، لا يعرف الضعف ولا الهوان، مما جعل أعداءهم يرجعون مدحورين يجرون أذيال الخزي والعار، ويبوءون بالبوار والخسران، ومن نماذج الثبات والاستبسال والتضحية وحب الشهادة في سبيل الله أنه لما دنا المشركون قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" فقال عمير بن الحمام الأنصاري: "جنة عرضها السموات والأرض!!": قال: "نعم". قال: بخ بخ. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما يحملك على قول: بخ بخ، قال: لا والله يا رسول الله إلاّ رجاء أن أكون من أهلها؟. فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "فِإنك من أهلها". فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن. ثم قال: "لئن أًنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إِنها لحياة طويلة"، فرمى ما كان معه من التمر ثم انطلق وهو يرتجز قائلاً:
ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد
وما زال يقاتل حتى قتل.
8- تواضع القائد عليه الصلاة والسلام وعدله:
وهذا أيضاً عامل آخر من عوامل رفع الروح المعنوية في نفوس الجيش الإسلامي حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم كأحدهم، يجالسهم، ويأكل معهم، ولا يتميز عليهم بشيء ، ومما روي من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في أصحابه، وكان عددهم 313 ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكانت إبلهم سبعين بعيراً يتبادلون ركوبها، كل ثلاثة أو أربعة يتعاقبون بعيراً، وكان حظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كحظ سائر أصحابه فكان هو وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون بعيراً، وكان رفيقا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يدعوانه ليركب ويقولان له: "اركب حتى نمشي معك" فكان يرفض منهما هذه الدعوة ويقول: "ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما" ولم يقبل أن يتميز عليهما.
كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمثل نموذج العدل والإنصاف في أصحابه حتى ولو على نفسه، ومن ذلك أنه لما كان يعدل جيشه ويسوي صفوفهم وكان رجل يدعى سواد بن غزيَّة قد برز من صفه قليلاً فضربه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسهم كان في يده وقال: "استو يا سواد". فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فَأقِدْني, فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اقتصً مني" فقال سواد كيف وقد ضربتني على بطني العريان، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن كشف له عن بطنه وقال له: "استقد يا سواد"؟ فاعتنقه سواد فقبل بطنه. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما حملك على هذا يا سواد"؟ فقال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك" فدعا له رسول الله بخير.
9- إخلاص المؤمنين لدينهم:
إن أساس الارتباط في الإسلام هو العقيدة التي قد تقتضي مصلحتها التفريق بين المرء وأبيه أو ابنه أو زوجته أو عشيرته، فالعقيدة المتغلغلة في النفوس تسمو على صلات الرحم والقرابة، وإن العقيدة إذا امتزجت بالنفوس واطمأنت بها القلوب فلن يخدعها هوًى أو رغبة، ولن تقف في سبيلها أية عاطفة، ولذا كان الرجل من المؤمنين في معركة بدر يقتل أباه أو أخاه أو عمه أو قريبه من المشركين لا تأخذه فيه شفقة أو رحمة، فقد قاتل أبو عبيدة بن الجرّاح أباه – وكان في صف المشركين - فقتله، وكان أبو عزيز بن عمير بن هشام أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه هو صاحب لواء المشركين في بدر وقد وقع في الأسر، فمرّ به أخوه مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يشد وثاقه، فقال مصعب للأنصاري: أشدد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك . قال له أبو عزيز: يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك.
10- تجنب العدوان وبذل النصيحة والمصالحة:
وذلك أنه لما أتم صلى الله عليه وآله وسلم تعديل الصفوف، أصدر أوامره إلى جيشه، بأن لا يبدءوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال: "إذا أكثبوكم، يعني كثروكم فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم".
وبعد أن سوى صلى الله عليه وآله وسلم الصفوف، وتهيأ الجميع للقتال أرسل إلى القرشيين عمر بن الخطاب في فرصة أخيرة يقول لهم: "ارجعوا فإنه إن يل هذا الأمر مني غيركم أحب إليّ من أن تلوه مني، وأن آليه من غيركم أحب إليّ من أن آليه منكم". فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصحًا فاقبلوه، فوالله لا تنتصرون عليه بعدما عرض من النصح، فأبوا النصيحة، وأصروا على القتال.
وهكذا يبدو الخلق الإسلامي من توجيهات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم البدء في القتال، وعدم استعمال سلاح إلا إذا استعمله الأعداء أولاً، فإن كان الرمي بالنبال يكون الرد بالنبال، وإن سلوا السيوف فلا مانع من الرد بها، وفي إرسال عمر لهم بيان تام لرغبة المسلمين في السلام الكريم الذي لا يضيع الحقوق.
هذه بعض الدروس والعبر من غزوة بدر الكبرى وهناك ولا شك الكثير من الدروس والعبر، والكثير من الأسباب والعوامل مما لا يسع المجال لذكرها والتي استحق بها المؤمنون الصادقون على قلتهم وضعفهم الانتصار العظيم على طواغيت قريش وجيشها الذي لا يقهر، ومن الواجب علينا أن يكون لنا فيها عبرة نستفيد منها في معركتنا اليوم وبعد اليوم مع أعدائنا من قوى الشر والطغيان، سائلين الله عز وجل أن يكتب لليمن وجيشه الظافر النصر والتأييد، وأن يمنحنا بفضله ما نصبو إليه من عزة وكرامة، والحمد لله رب العالمين.