يوم الفرقان الدرس والدلالات

نشر بتاريخ: سبت, 16/04/2022 - 10:35م

تطلق تسمية يوم الفرقان على يوم بدرٍ وهو اليوم الذي فرّق الله فيه بين الكفر والإيمان وذلك بإعلاء كلمة الإسلام على الشرك، فالتسمية تسمية إلهية قرآنية لأن معركة بدرٍ فرقت بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال وبين الخير والشر وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل دلالة واضحة على الأهمية الكبرى التي تحتلها معركة بدر من وجهة نظر الإسلام قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾[الأنفال:41] فعلى المسلمين اليوم وخاصَّة في هذا الظرف الحساس من تاريخهم أن يلتفتوا التفاتة صادقة وجادَّة إلى التاريخ النضالي والجهادي لرسول الله صلوات الله عليه وعلى آله وأن يتأملوا في غزواته ومعاركه وعلى رأسها معركة بدر التي كانت فيصلاً فارقاً بين الحق المحارَب والمعادَى وبين الباطل المدجَّجِ والمنتفخ، ولله درُّ الإمام زين العابدين علي بن الحسين عندما قال: (كُنَّا نُعَلَّمُ مغازي رسول الله كما نُعَلَّمُ السورة من القرآن) وهذا الكلام الصادر من هذا الإمام العملاق في وعيه وبصيرته وعلمه وعبادته جديرٌ بالتأمل وجديرٌ بأن يؤخذ مأخذ الجد فغزوات الحبيب المصطفى ليست مجرد قصص تقرأ للتسلية والافتخار فقط والحفاظ على التراث فالهدف الأساسي من هذه الغزوات هو أنها ترسخ مبدأ العزة والإباء والثقة المطلقة بالله سبحانه وتعالى وحريٌّ بنا اليوم كوننا من أمة الرسول الأعظم والنبي الأكرم أن نتناسى غزوات رسول الله خاصة معركة بدر بكلِّ وعي بكلِّ استبصار وبكل اهتمامٍ بالغٍ لنأخذ منها أسمى معاني السمو وأرقى معاني النصيحة وأجلى صور الثبات لأن الرسول صلوات الله عليه وعلى آله يمثل لأمته النموذج العملي الراقي الذي يثير في نفوس متبعيه كل معاني الإعجاب والاعتزاز ولا غرو أن تكون أمته عزيزة بعزة الله وبعزة رسوله الأمين الذي رسم لها معالم العزة ومعالم الكرامة وبذل في سبيل ذلك كل ما لديه من طاقة وجهد وعطاء وتضحية وصدق الله القائل في محكم كتابه العظيم إذ يقول في سورة النساء ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾[النساء:80] ففي هذه الآية المباركة ملمح هامٌّ جداً وهو اعتبارُ طاعة الرسول صلوات الله وعلى الطاعة لله وهذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أننا مأمورون بأن ننهج منهجية الرسول في سلمه وحربه ودفاعه وفي جميع مجالات الحياة دون استثناء فلست شخصية المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله مجرد ظاهرة صوتية أو ظاهرةً شكلية فالمولى عز وجل ما أرسل الحبيب المصطفى، وكذلك جميع الرسل إلا ليطاعوا ويُفتدى بهم ويُتَأسَّى بهم، وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول في سورة النساء ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ..﴾[النساء:64]  فلم يرسل الله الرسل وعلى رأسهم الحبيب المصطفى لمجرد التأثير الوجداني والشعائر التعبدية فقط فهذا وهمٌ كبير جداً في فهم دين الله وهو لا يستقيم مع حكمة الله من إرسال الرسل حيث أرسلهم الله سبحانه وتعالى لإقامة منهجه في الحياة، ومن هنا كان تاريخ الإسلام دعوة وبلاغاً ونظاماً وحكماً ودفاعاً واستماتةً لا نظير لها في سبيل المحافظة على المبادئ والقيم والمنهج الذي جاء به الرسول لإقامة منهج الحق والهدى والنور فليس الرسول مجرد واعظ لا يعنيه إلا أن يقول كلمته ثم يمضـي بعد ذلك يستهزئ به المستهزئون ويسخر منه الساخرون ويتطاول عليه المجرمون وهو لا يُجيد سوى الكلام فقط.

إن تمكين منهج الله في الأرض لابد له من دعائم متينة وقوية تقف أمام هواة الظلم والغطرسة والفرعنة ولذلك يقول  الله عز وجل في سورة آل عمران ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾[آل عمران:146]  فهذه رسالات الله على مرِّ الزمان احتاجت إلى قتال الربيين من أجل أن تبقى راسخة متوهجة متجذرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ومن أجل هذه الغاية السامقة لابد من بذل المهج وعدم الضعف أو الاستكانة لأعداء المنهج الإلهي وأعداء رسالات الله وأعداء الحق والعدل والنور ولن تستقيم الحياة إلا بهذا العطاء للأنفس والأرواح والأموال بكل سخاء من أجل إيقاف غلواء الباطل المتبجح والمتعالي ولذلك يقول الله تعالى في محكم كتابه العظيم في سورة البقرة ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز﴾[الحج:40].

إذن فمشروعية القتال ومشروعية الجهاد في الإسلام لم تأتِ من أجل تشييد امبراطوريات أو مملكات أو جمهوريات أو دول همها الأكبر هو التوسع والامتداد والتحكيم والسيطرة والنفوذ.

إن الغاية العظمى من مشروعية الجهاد والقتال في الإسلام هي حماية الإنسانية من تعسف الطغاة والجبابرة والمتغطرسين والظالمين الذين لا يعبؤون بدين ولا حرية ولا إنسانية ولا مبادئ ولا أخلاق ولا قيم ولا عدل يريدون فقط فرض مصالحهم الانتهازية على حساب الكرامة الإنسانية مستخدمين في سبيل هذه الغاية الرعناء كل أساليب البطش والتنكيل والاستبداد والعلو جاعلين كل الدساتير والقوانين والقيم الإنسانية تحت أقدامهم ظانِّين أنفسهم أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم رمز الخير ورمز السلام ورمز العدالة الإنسانية، وهنا يقف الإسلام شاهراً سيفه أمام هؤلاء المتلاعبين بمصير البشرية وبالإنسانية ليوقفهم عند حدِّهم لأن هذا الدين لا يقبل أمثال هؤلاء الحثالة المتجردين عن كل القيم والأخلاق والمثل وهذا هو ما فعله الرسول الأكرم في جميع معاركه وغزواته صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ بغية مؤدِّبُ الطغاة والجبابرة والمتعالين على قيم وعدالة السماء الذين يريدون أن يعبِّدوا البشرية لشهواتهم ونزواتهم ومصالحهم.

ومعركة بدر العظمى التي خاضها النبي صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ ومعه صحابته المخلصون تمثل هذا الجانب وهو جانب إحقاق الحق وإزهاق الباطل والدفاع عن الكرامة الإنسانية ولم يكن الهدف منها هو التعالي أو بسط النفوذ والسيطرة أو المباهاة والمفاخرة أو الزهو فهذا لم يكن وارداً أبداً في قاموس الرسول الأكرم ومن معه من الصحابة الكرام المخلصين ولكي نسلط الأضواء على هذه المعركة المباركة ندع المجال لمن له كلمة الفصل والحق ألا وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُون * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُون * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون﴾ [الأنفال:5-8].

عند التأمل في قوله تعالى: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ﴾ لابد من الوقوف مليًّا عند قول المولى عز وجل ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي متلبساً بالحق فقد خرج الرسول صلوات الله عليه وعلى آله متوجهاً هو ومن معه من الصحابة إلى مكان القافلة القرشية الهائلة العائدة من الشام وكان تعداد هذه القافلة ألف بعير مليئة بالأموال يقود هذه القافلة أبو سفيان مع رجال لا يزيدون على الأربعين والاستيلاء على هذه القافلة يعتبر ضربة قاصمةً لاقتصاد قريش وعند خروج النبي صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ ترك الأمر للرغبة ولم يفرض الخروج على أحد.

وجدير بالتنبيه أن خروج الرسول صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ مع مَنْ معه للاستيلاء على القافلة الضخمة لا يعد من باب الاعتداء والتقطع غير المشروع كما يصور ذلك المستشرقون الحاقدون إنما هو من باب قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُون﴾[الشورى:39] فقد أصاب المسلمون من كفار قريش خسائر كبيرة وذلك أثناء هجرتهم إلى المدينة المنورة وكان لزاماً على المسلمين أن يسعوا لاسترداد حقوقهم المنهوبة المسلوبة وأن يشعروا قريشاً بأن المسلمين صاروا يشكلون قوة ضاربة يحسب لها حسابها حتى تخفف قريش من غطرستها وفرعتنها وغلوائها، وقد خرج الحبيب المصطفى صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ قائلاً لأصحابه «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا لعل الله ينفلكموها» أي تكون لكم غنيمة ولم يكن يتصور أحدٌ ممَّن خرج مع النبي صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ أن الأمر سيخرج عن نطاق ما خطط له إذ أنهم إنما خرجوا قاصدين فقط قافلة قريس فتحول الأمر إلى مواجهة مع قريش وكما يقال (تجري الرياح بما لا تشتهي السفن) فقد أدرك أبو سفيان الخطر الذي يواجه القافلة فاتجه إلى طريق الساحل لينجوا بالقافلة واتخذ إجراءً آخر وهو بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى قريش لتأليبها وتحريضها وتهييجها لاستنقاذ أموالها وقد أفلح ضمضم الغفاري في مهمته التحريضية فاستشاط غضبها فخرجت قريش بخيلائها وكبريائها بطراً ورياءً تريد أن تسحق المسلمين وأن تثأر لكبريائها وغرورها خرجت وهي في قمة البطر.

وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة الأنفال ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط﴾[الأنفال:47].

لم يكن يتخيل الذين خرجوا مع الرسول الأكرم أنهم مقبلون على يوم من أعظم أيام الإسلام وأشدها خطراً وشأناً فقد خرجوا متهيئين نفسياً للقافلة ولذلك لم يأخذوا أهبتهم واستعدادهم الكامل لمعركة حامية الوطيس ولكن الأمر سرعان ما انقلب وتحول إلى ما تنفر عنه النفوس وهو شاقٌّ عليها.

نعم إنها المشقة بعينها.. نعم إنها  المشقة بذاتها، وفي ذلك يقول المولى عز وجل في سورة البقرة ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾[البقرة:216] .

ونتيجة لعدم الاستعداد الكامل فقد كره فريق ممن خرج مع رسول الله صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ المواجهة مع طواغيت قريش وجادلوا رسول الله صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ في هذه المواجهة التي كانت تعدُّ من وجهة نظرهم انتحاراً أو غير مضمونة الانتصار والسبب في هذا الشعور غير المحمود وغير المرضي أنهم لم يعرفوا الحكمة في خوض هذه المعركة التي فاجأتهم دون سابق إعداد وتجهيز لها وكان من ضمن ما جادلوا به النبي صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ قولهم «إن هذه قريش ما ذلَّتْ منذُ عزَّتْ» وأعادوا على النبي صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ أحاديث قريش في قوتها واستعلائها وخيلائها وغطرستها محاولين إقناع النبي على عدم المواجهة لقريش، لكنَّ الرسول قد قرَّر المواجهة وقرَّر أن الإقدام ومنازلة قريش هو أولى وحذَّر صلوات الله عليه وعلى آله أصحابه من عاقبة الرجوع إلى المدينة بعد أن فاتتهم العير ولم يكن النبي كذلك يلقي بالاً لنجاة قافلة قريش بقدر ما كان يهتم صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ بمواجهة عتاولة قريش وذلك إعلاءً لكلمة الله وتحقيراً وإهانةً للكفر وأذياله وأتباعه وعلى رأسهم أبو جهل الذي أصر على قتال المسلمين وأصرَّ على رفع كلمة الكفر وتدعيمها والعلوِّ بها قائلاً عليه لعنة الله (والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم ثلاثاً ننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً) إنها كلمات تدل على قمة الكبر والاستلاء والفرعنة التي وصلتها قريش ولكن إرادة الله ماضيةٌ وسننه في الذين استكبروا وعتوا وطغوا وتمادوا لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول قال تعالى ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾[الأحزاب:62]، وقال تعالى: ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾[فاطر:43]، وقال تعالى أيضاً في سورة الفتح: ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾[الفتح:23].

إن نفسية الطغاة والظلمة والمجرمين تتكرر في كل زمان وفي أماكن عدة، ولكن بأس الله شديدٌ وعقابه أليم، وعلى كل باغٍ وظالمٍ تدور الدوائر، وصدق الله جل جلاله القائل في سورة الكهف: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾[الكهف:59].

ويأذن الله بأفول شمس قريشٍ وخمود عزها الذي طالما تعالت به على عباد الله المستضعفين وظنت أنها بمركزها الحسَّاس بين قبائل العرب ستستأصل شأفة المسلمين وتمحو ذكرهم ولكن أنَّى لها ذلك والله هو الذي قيّض لدينه رجالاً وهبوا أنفسهم وأرواحهم وأموالهم وأغلى ما عندهم لله سبحانه وتعالى وعلى رأسهم الرسول الأكرم الذي ضرب أروع الأمثلة على مرِّ التاريخ الإنساني في الصمود والصبر والثبات والتوكل على الله والاطمئنان لوعده، وكان من ضمن مناجاته لربه ودعائه لربه في معركة الفرقان قوله عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «اللهم إنْ تهلك هذه العصابة لا تُعبَدُ في الأرض» وكذلك يتضرع لربه في خشوع وخضوع لا مثيل لهما أبداً قائلاً صلوات الله عليه وعلى آله: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك».

وفعلاً يأذن الله سبحانه وتعالى بنصرة دينه ونبيه وأوليائه ويقع ذلك الانتصار الساحق الذي شاركت فيه ملائكة السماء بتوفيق وعون وتسديد من الحي القيوم الذي لا يخذل أولياءه وإنْ عرَّضهم للبلاء والمصائب والشدائد والمحن ولكنه أرأف بهم وأرحم بهم من أنفسهم وهو اللطيف بهم، وصدق عزَّ من قائل حكيم في سورة الحديد ﴿وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم﴾[الحديد:9] .

وتنتهي المعركةُ مؤذنةً بتاريخ جديد للبشرية وللإنسانية، تتنفس فيه عبق النور وعبق الهدى وعبق الحق وعبق الكرامة وعبق الحرية بعد أن عاشت قروناً من الظلم والظلام والاستعباد والفوضى والبؤس والحيرة وكان لسان حال البشرية كما قال الشاعر أحمد شوقي في قصيدته المشهورة بنهج البردة:

أتيتَ والناسُ فوضى لا تمر بهم
 

 

إلا على صنم قد هام في صنم
 

فعاهل الروم يطغى في رعيته
 

 

وعاهل الفرس من كبر أصمُّ عمي
 

 

  وهكذا ترجع قريش جارَّةً أذيال الخيبة ذائقة مرارة الهزيمة متجرعة كأس المنون حيث قتل سبعون من صناديدها وكبرائها وأسر سبعون ولم يكن في حسبانها ولو للحظة أنها ستتلقى صفعة مدوية في جذور وأعماق التاريخ على أيدي ثلة طالما استحقرتهم وسخرت منهم واستضعفتهم ونكلت بهم وحاصرتهم وأذاقتهم الويلات ولكنَّ الله سبحانه وتعالى غالب على أمره كما قال تعالى في سورة يوسف: ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾

الدلالات: