من فضل الله تعالى على عباده أن جعل أبواب التخاطب معه مفتوحة أمام جميع الخلق حيث لا حواجز تحول بينه وبين أحد من خلقه، يقول تعالى : ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ ، ومن كلام للإمام علي عليه السلام قوله: (واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه) .
فالدعاء له أثره الكبير في حياة الإنسان، ومن بركات الدعاء وثماره الطيبة أنه يوثّق الصلة بالله تعالى، ويلهم الإنسان القدرة على مواجهة التحديات، وتجاوز الهموم والمشاكل، حين يطمئن قلبه بذكر الله ويشعر بقربه من خالقه ومولاه.
وكثيرة هي الأدعية التي اشتملت عليها بطون الكتب، غير أن للأدعية المأثورة عن الأنبياء والأولياء خصائصها الفريدة التي تميّزت بها عن سائر الأدعية، ومنها أدعية الصحيفة السجادية المأثورة عن الإمام السجاد زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، والتي تمثل بحق مدرسة تربوية عظيمة، تعرّف الإنسان على جوانب عظمة الخالق جلّ وعلا، وتوثق صلته به، وتنمي في نفس الإنسان مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات.
ومما يميز أدعية الصحيفة السجادية المباركة أنها ليست مجرد أدعية وابتهالات فحسب، بل هي في ذات الوقت كنز علم ومعرفة، ومدرسة تربية وإصلاح من خلال عباراتها التي صيغت بعبارات تدعو إلى صفاء الروح، وطهارة النفس، والتجرّد من عالم المادة، والاتصال بالله تعالى، والانقطاع الكامل إليه، والاعتصام به دون سواه من خلقه، وتقدم كنوزاً من المعارف الإسلامية بما احتوت عليه من مفاهيم ومضامين ودلالات عميقة في العقائد والفكر والأخلاق والتربية والسلوك.
وسنقف في هذا المقال مع واحدة من المحطات التربوية للصحيفة السجادية المباركة، من خلال (دعاء دخول رمضان)، و (دعاء وداع رمضان)، سنتناول فيه جملة من القيم التربوية المهمّة التي اشتمل عليها هذان الدعاءان التي ينبغي أن يلتزمها المسلم الصائم في رمضان، والتي من أهمها ما يلي:
1- الاعتراف بنعم الله تعالى وشكره على آلائه:
الكثير من المسلمين لجهلهم بالحكمة من تشريع الفرائض يؤدّون تلك الفرائض من منطلق القيام بالفريضة الواجبة، وهذا ما يجعل القيام بهذه الفرائض في كثير من الأحيان وفي مقدّمتها صيام شهر رمضان شاقًّا ومتعبًا، ولذا فإن من الواجب على المسلم أن يستشعر -وهو يؤدّي فريضة الصيام طوال شهر كامل- أنه يؤدّي هذه الفريضة وغيرها من الفرائض من منطلق شكر الله سبحانه على نعمه وفضله، فكثير هي النعم التي أولانا الله تعالى بها، والتي لا نستطيع عدّها ولا حصرها، وأهمها وأعظمها هي نعمة هدايتنا إلى الإيمان، واختصاصنا بدين الإسلام، وجدير بنا أن نؤدّي شكر الله على هذه النعم، ونحن إذ نؤدي فريضة صيام شهر رمضان لا نمن على الله سبحانه بأننا قد امتثلنا أمره وأدينا الفريضة الواجبة التي فرضها علينا، بل نعترف بالفضل لله سبحانه، حيث أنعم علينا بسائر النعم، وهدانا إلى شكره على هذه النعم بما أوجب علينا من الفرائض الواجبة التي منها صيام شهر رمضان، وأعاننا على أدائها والقيام بها، ووعدنا عليها بالأجر والجزاء العظيم، فالفضل والمنة في كل ذلك لله تعالى، وكل هذه المعاني نجدها حاضرة بقوّة في دعاء دخول رمضان، حيث نجد الإمام زين العابدين عليه السلام يفتتح هذا الدعاء بقوله: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِحَمْدِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ، لِنَكُونَ لإحْسَانِهِ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلِيَجْزِيَنَا عَلَى ذلِكَ جَزَاءَ الْمُحْسِنِينَ. وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي حَبَانَا بِدِينِهِ، وَاخْتَصَّنَا بِمِلَّتِهِ، وَسَبَّلَنَا فِي سُبُلِ إحْسَانِهِ، لِنَسْلُكَهَا بِمَنِّهِ إلَى رِضْوَانِهِ، حَمْدَاً يَتَقَبَّلُهُ مِنَّا، وَيَرْضَى بِهِ عَنَّا. وَالْحَمْدُ لِلّه الَّذِي جَعَلَ مِنْ تِلْكَ السُّبُلِ شَهْرَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ).
2- معرفة مكانة شهر رمضان واحترام قدسيته:
إن أفضل الشهور عند الله هو شهر رمضان، ومن الواجب على المسلم أن يحترم قدسية شهر رمضان المبارك، وأن يعرف لهذا الشهر الكريم مكانته وفضله العظيم عند الله تعالى، ولذا فكان أول ما تضمنه دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام هو الإشارة إلى مكانة شهر رمضان وفضله على سائر الشهور، فيقول: (شَهْرَ رَمَضَانَ، شَهْرَ الصِّيَامِ، وَشَهْرَ الاِسْلاَم، وَشَهْرَ الطَّهُورِ، وَشَهْرَ التَّمْحِيْصِ، وَشَهْرَ الْقِيَامِ، الَّذِي أُنْزِلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقَانِ) إلى أن يقول: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْهِمْنَا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ وَإِجْلاَلَ حُرْمَتِهِ) .
ويقول عليه السلام في دعاء وداع مضان: (اللَّهُمَّ وَأَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفَايَا تِلْكَ الْوَظَائِفِ وَخَصَائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِن جَمِيعِ الازْمِنَةِ وَالدُّهُورِ، وَآثَرْتَهُ عَلَى كُلِّ أَوْقَاتِ السَّنَةِ بِمَا أَنْزَلْتَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالنُّورِ، وَضَاعَفْتَ فِيهِ مِنَ الايْمَانِ، وَفَرَضْتَ فِيْهِ مِنَ الصِّيَامِ، وَرَغَّبْتَ فِيهِ مِنَ القِيَامِ، وَأَجْلَلْتَ فِيهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر).
ويقول في وداعه أيضا: (السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الاكْبَرَ، وَيَا عِيْدَ أَوْلِيَائِهِ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أكْرَمَ مَصْحُوب مِنَ الاوْقَاتِ، وَيَا خَيْرَ شَهْر فِي الايَّامِ وَالسَّاعَاتِ..) إلى أن يقول: (السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْرٍ لا تُنَافِسُهُ الايَّامُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلاَمٌ).
3- الكف عن الحرام في شهر الصيام واجتناب السيئات والشبهات:
من المعلوم أن صيام شهر رمضان سبب في مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «من صام رمضان إيماناً واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وفي رواية: «غفر له ما تقدم من ذنبه » ، ومعلوم أن المسلم لا ينال هذا الأجر وذلك الثواب إلا إذا صام الشهر الكريم صوماً حقيقيًّا، وذلك بما تثمره عبادة الصيام من التقوى، والخوف والخشية من الله تعالى، والكف عن المعاصي، والصدق في القول، والإخلاص في العمل، وفي ذلك يقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». وفي الأثر عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس لـه من قيامه إلاَّ السهر».
ومعنى ذلك أن من أوجب الواجبات في شهر الصيام هو اجتناب السيئات والكف عن المحرّمات، فإن الصيام لا يكون مقبولاً مضاعف الأجر عند الله إلا إذا صاحب الصيام تقوى الله تعالى وخشيته والخوف منه، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة : 27] .
ولذلك نجد الإمام زين العابدين عليه السلام يولي هذه القضية جل اهتمامه في دعائه فيقول: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْهِمْنَا مَعْرِفَةَ فَضْلِهِ، وَإِجْلاَلَ حُرْمَتِهِ، وَالتَّحَفُّظَ مِمَّا حَظَرْتَ فِيهِ، وَأَعِنَّا عَلَى صِيَامِهِ بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيْكَ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيْكَ حَتَّى لاَ نُصْغِي بِأَسْمَاعِنَا إلَى لَغْو، وَلا نُسْرِعُ بِأَبْصَارِنَا إلَى لَهْو، وَحَتَّى لاَ نَبْسُطَ أَيْدِيَنَا إلَى مَحْظُور، وَلاَ نَخْطُوَ بِأَقْدَامِنَا إلَى مَحْجُور، وَحَتَّى لاَ تَعِيَ بُطُونُنَا إلاَّ مَا أَحْلَلْتَ، وَلا تَنْطِقَ أَلْسِنَتُنَا إلاَّ بِمَا مَثَّلْتَ وَلا نَتَكَلَّفَ إلاَّ ما يُدْنِي مِنْ ثَوَابِكَ، وَلاَ نَتَعَاطَى إلاّ الَّذِي يَقِيْ مِنْ عِقَابِكَ).
كما يجب على الصائم كذلك الحذر من الغفلة عن ذكر الله، والانقياد لهوى النفس ووساوس الشيطان في قول أو فعل او اعتقاد، فيكون ذلك سببًا في إبطال صومه وحرمانه من أجر الصيام وثوابه، وفي ذلك يقول الإمام عليه السلام: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَجَنِّبْنَا الالْحَادَ فِي تَوْحِيدِكَ، وَالتَّقْصِيرَ فِي تَمْجِيدِكَ، وَالشَّكَّ فِي دِينِكَ، وَالْعَمَى عَنْ سَبِيْلِكَ، وَالإِغْفَالَ لِحُرْمَتِكَ، وَالانْخِدَاعَ لِعَدُوِّكَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
4- اغتنام أوقات الشهر الكريم والاجتهاد في العبادة والطاعة، والاهتمام بالفرائض والسنن:
كثير هم أولئك الذين يقضون أيام وليالي رمضان في النوم وتضييع الوقت فيما لا يفيد، وهذا غاية التفريط، فأيّام شهر رمضان المبارك ولياليه وساعاته كلها مباركة، والعمل فيها مقبول، والأجر فيها مضاعف أضعافًا كثيرة، ومن الحمق والجهل أن يضيع الإنسان هذه الساعات والأوقات الثمينة فيما لا يفيد الإنسان في دنياه ولا في آخرته.
وإن مما يزيد في أجر الصائم ويرفع من درجته أن يستشعر أنه في عبادة، وأن يقضي أيّام شهر رمضان ولياليه وساعاته فيما يقربه إلى الله، ويتزوّد فيه بما استطاع من الطاعات والأعمال الصالحة، وقد لخّص الإمام زين العابدين عليه السلام في دعائه ما يجب على المسلم الاهتمام به في أيّام رمضان وأوقاته المباركة، وفي مقدمة ذلك المحافظة على الصلوات الخمس، وعلى الجمعة، والجماعات، وإخراج الزكاة، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان إلى الجيران، والقيام بالحقوق الواجبة لله ولسائر الخلق، وغير ذلك من الأعمال والطاعات، فيقول عليه السلام: (اللَهُمَّ اشْحَنْهُ بِعِبَادَتِنَا إيَّاكَ، وَزَيِّنْ أَوْقَاتَهُ بِطَاعَتِنَا لَكَ، وَأَعِنَّا فِي نَهَارِهِ عَلَى صِيَامِهِ، وَفِي لَيْلِهِ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْكَ وَالخُشُوعِ لَكَ، وَالذِّلَّةِ بَيْنَ يَدَيْكَ حَتَّى لا يَشْهَدَ نَهَارُهُ عَلَيْنَا بِغَفْلَة، وَلا لَيْلُهُ بِتَفْرِيط)، ويقول عليه السلام: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَقِفْنَا فِيْهِ عَلَى مَوَاقِيْتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْس، بِحُدُودِهَا الَّتِي حَدَّدْتَ، وَفُرُوضِهَا الَّتِي فَرَضْتَ، وَوَظَائِفِهَا الَّتِي وَظَّفْتَ، وَأَوْقَاتِهَا الَّتِي وَقَّتَّ، وَأَنْزِلْنَا فِيهَا مَنْزِلَةَ الْمُصِيْبينَ لِمَنَازِلِهَا الْحَافِظِينَ لأَرْكَانِهَا، الْمُؤَدِّينَ لَهَا فِي أَوْقَاتِهَا..) إلى أن يقول: (وَوَفِّقْنَا فِيهِ لاِنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالإِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ، وَأَنْ نُطَهِّرَهَا بِإخْرَاجِ الزَّكَوَاتِ...) إلى أن يقول: (وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إلَيْكَ فِيْهِ مِنَ الاَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ بِمَا تُطَهِّرُنا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنَا فِيهِ مِمَّا نَسْتَأنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ، حَتَّى لا يُورِدَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ مَلاَئِكَتِكَ إلاّ دُونَ مَا نُورِدُ مِنْ أَبْوابِ الطَّاعَةِ لَكَ، وَأَنْوَاعِ القُرْبَةِ إلَيْكَ).
ويقول عليه السلام في دعاء وداع مضان: (اللَّهُمَّ فَلَكَ الْحمدُ إقْرَاراً بِالاسَاءَةَ وَاعْتِرَافاً بِالاضَاعَةِ...) إلى أن يقول: (وَأَوْجِبْ لَنَا عُذْرَكَ عَلَى مَا قَصَّرْنَا فِيهِ مِنْ حَقِّكَ، وَابْلُغْ بِأَعْمَارِنَا مَا بَيْنَ أَيْديْنَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُقْبِلِ، فَإذَا بَلَّغْتَنَاهُ فَأَعِنَّا عَلَى تَنَاوُلِ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَأَدِّنَا إلَى الْقِيَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَأجْرِ لنا مِنْ صَالِحِ العَمَلِ مَا يَكون دَرَكاً لِحَقِّكَ فِي الشَّهْرَيْنِ مِنْ شُهُورِ الدَّهْرِ).
5- الإخلاص لله في العمل والطاعة:
قد يجهد الإنسان نفسه في فعل الطاعات، فيكثر من تلاوة القرآن الكريم، وذكر الله تعالى، وقد يكثر من الصلاة والصدقة والصيام.. إلى غير ذلك من الأفعال والأقوال. ولكنه لا ينال أجراً على شيء من تلك الأعمال قلّت أم كثرت إلا إذا صاحبها الإخلاص لله تعالى في كل أقوال الإنسان وأفعاله.
فبقدر الإخلاص يكون قبول العمل ومضاعفة أجره ، وإن من أخطر ما يعترض المسلم في أعمال الطاعات والعبادات – لا سيما في رمضان - مظاهر الرياء التي تصاحب بعض الأعمال الصالحة في رمضان وبعضها من الأعمال العظيمة والكبيرة، والتي قد تصدر عن بعض ضعاف الإيمان، الذين يبتغون بذلك أن تلهج الألسنة بمدحهم والثناء عليهم، وهم لا يعلمون أنهم قد أبطلوا أعمالهم، بهذه المظاهر الزائفة التي لن يجنوا منها سوى السراب، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف : 110]، ولذلك نجد الإمام عليه السلام يؤكّد على ضرورة الإخلاص في العمل، وتجنب مظاهر الشرك والرياء التي من شأنها أن تمحق الأجر وتحبط العمل، فيقول: (وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إلَيْكَ فِيْهِ مِنَ الاَعْمَالِ الزَّاكِيَةِ بِمَا تُطَهِّرُنا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنَا فِيهِ مِمَّا نَسْتَأنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ، حَتَّى لا يُورِدَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنْ مَلاَئِكَتِكَ إلاّ دُونَ مَا نُورِدُ مِنْ أَبْوابِ الطَّاعَةِ لَكَ، وَأَنْوَاعِ القُرْبَةِ إلَيْكَ، ثُمَّ خَلِّصْ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ رِئاءِ الْمُرَائِينَ، وَسُمْعَةِ الْمُسْمِعِينَ، لاَ نُشْرِكُ فِيهِ أَحَداً دُونَكَ، وَلا نَبْتَغِيْ فِيهِ مُرَاداً سِوَاكَ).
6- التخلّص من التبعات والتوبة الصادقة من الذنوب والمعاصي:
ارتبط شهر رمضان الكريم بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، والمسلم يحرص في شهر رمضان الكريم يحرص أشد الحرص على التوبة من الذنوب، والتخلّص من التبعات، فالتوبة في هذا الشهر الكريم مقبولة، والدعاء فيه مستجاب، والعمل فيه مقبول، وهو فرصة عظيمة للتجارة مع الله تعالى، والتخلص بالتوبة الصادقة إلى الله تعالى من جميع الذنوب والآثام، وفي ذلك يقول الإمام زين العابدين عليه السلام: (وَوَفِّقْنَا فِيهِ لاِنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالإِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ، وَأَنْ نُخَلِّصَ أَمْوَالَنَا مِنَ التَّبِعَاتِ)، ويقول: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَامْحَقْ ذُنُوبَنَا مَعَ امِّحاقِ هِلاَلِهِ وَاسْلَخْ عَنَّا تَبِعَاتِنَا مَعَ انْسِلاَخِ أَيَّامِهِ حَتَّى يَنْقَضِي عَنَّا وَقَدْ صَفَّيْتَنَا فِيهِ مِنَ الْخَطِيئاتِ، وَأَخْلَصْتَنَا فِيهِ مِنَ السَّيِّئاتِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَإنْ مِلْنَا فِيهِ فَعَدِّلْنا، وَإنْ زِغْنَا فِيهِ فَقَوِّمْنَا، وَإنِ اشْتَمَلَ عَلَيْنَا عَدُوُّكَ الشَّيْطَانُ فَاسْتَنْقِذْنَا مِنْهُ).
ويقول في دعائه في وداع رمضان: (اللَّهُمَّ إنَّا نَتُوبُ إلَيْكَ فِي يَوْمِ فِطْرِنَا الّذِي جَعَلْتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِيداً وَسُرُوراً. وَلِأهْلِ مِلَّتِكَ مَجْمَعاً وَمُحْتشداً مِنْ كُلِّ ذَنْب أَذْنَبْنَاهُ، أَوْ سُوْء أَسْلَفْنَاهُ، أَوْ خَاطِرِ شَرٍّ أَضْمَرْنَاهُ، تَوْبَةَ مَنْ لاَ يَنْطَوِيْ عَلَى رُجُوع إلَى ذَنْب، وَلا يَعُودُ بَعْدَهَا فِي خَطِيئَة، تَوْبَةً نَصوحاً خَلَصَتْ مِنَ الشَّكِّ وَالارْتِيَابِ، فَتَقَبَّلْهَا مِنَّا وَارْضَ عَنَّا وَثَبِّتنَا عَلَيْهَا. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَوْفَ عِقَابِ الْوَعِيدِ، وَشَوْقَ ثَوَابِ الْمَوْعُودِ حَتّى نَجِدَ لَذَّةَ مَا نَدْعُوكَ بِهِ، وكَأْبَةَ مَا نَسْتَجِيْرُكَ مِنْهُ، وَاجْعَلْنَا عِنْدَكَ مِنَ التَّوَّابِيْنَ الَّذِينَ أَوْجَبْتَ لَهُمْ مَحَبَّتَكَ، وَقَبِلْتَ مِنْهُمْ مُرَاجَعَةَ طَاعَتِكَ، يَا أَعْدَلَ الْعَادِلِينَ).
7- الصبر واحتمال الأذى:
للصيام أثره الكبير في غرس الفضائل، والتحلّي بمكارم الأخلاق، الأمر الذي يعني أن سوء الأخلاق ومظاهر الغضب والنزق التي تصاحب الصيام عند كثير من الناس من الأمور التي تتنافى مع فضيلة الصيام وقدسيّته، فالصيام الحقيقي هو الصيام الذي يمنع الإنسان من أن يعتدي أو يظلم أو يجهل، أو يتصرّف التصرف الأحمق في أي شأن من الشؤون، إلى جانب ذلك فالصيام يعلّم الإنسان الصبر عن الشهوات، والصبر على مشقّات الحياة ومصاعبها، ويعوّد الإنسان على احتمال المكاره، وفي مقدمتها ما قد يقع عليه من الأذى من الآخرين، من قريب أو بعيد من الناس، ولا سيّما الجُهّال والأطفال امتثالاً لقول الله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت : 34 ، 35]، وإلى ذلك يشير الإمام عليه السلام في دعائه إلى ما يجب أن يكون عليه المسلم في رمضان من كف الأذى، وتجنب الظلم، ورد الإساءة بالإحسان، فيقول عليه السلام: (وَأَعِنَّا عَلَى صِيَامِهِ بِكَفِّ الْجَوَارِحِ عَنْ مَعَاصِيْكَ، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيهِ بِمَا يُرْضِيْكَ...) إلى أن يقول: (وَأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَا، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا، وَأَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا -حَاشَا مَنْ عُودِيَ فِيْكَ وَلَكَ، فَإنَّهُ الْعَدُوُّ الَّذِي لاَ نُوالِيهِ، وَالحِزْبُ الَّذِي لاَ نُصَافِيهِ).
8- الاستقامة على طاعة الله في سائر الشهور والأيّام:
الصيام عبادة من شأنها غرس التقوى في نفس المؤمن، وهو ما أشار إليه الحق تبارك وتعالى في قوله عز من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة : 183] .
ومعلوم فضيلة التقوى التي يغرسها الصيام في نفس الإنسان المؤمن ليست تقوى آنية مقتصرة على زمن الصيام، أو شهر رمضان فحسب، وإنما هي تقوى دائمة، تبعث على الخوف من الله تعالى، والاستقامة على طاعته، في كل وقت من عمر الإنسان المؤمن، في رمضان وفي غير رمضان، وبهذا تتحقّق نتيجة الصيام المرجوّة، وغايته المنشودة.
فالصيام والطاعة في شهر رمضان ليست سوى طاقة إيمانية يتزود بها الإنسان لسائر أيامه، وهو ما أشار إليه الإمام زين العابدين عليه السلام بقوله: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَإنْ مِلْنَا فِيهِ فَعَدِّلْنا، وَإنْ زِغْنَا فِيهِ فَقَوِّمْنَا، وَإنِ اشْتَمَلَ عَلَيْنَا عَدُوُّكَ الشَّيْطَانُ فَاسْتَنْقِذْنَا مِنْهُ.. اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا فِي سَائِرِ الشُّهُورِ وَالاَيَّامِ كَذَلِكَ مَا عَمَّرْتَنَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، وَمِنَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).